القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله
فكذلك القلب ، إنما يَيبس إذا خلا من توحيد الله و حبه و معرفته و ذكره و دعائه ، فتصيبه حرارة النفس ، و نار الشهوات ، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها ، و الانقياد إذا قُدتها ، فلا تصلح بعدُ هي و الشجرة إلا للنَّار { فويلٌ للقاسية قُلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} [الزمر :22] ، فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة ، كانت الأغصان ليِّنة مُنقادة رطبة ، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك ، و أقبلت سريعة لينة وادعة ، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان و مادتها من رطوبة القلب و ريِّه ، فالمادة تعمل عملها في القلب و الجوارح ، و إذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البِّر ؛ لأن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح ، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية ، و لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخُصُّه ، و طاعة مطلوبة منها ، خلقت لأجلها و هيئت لها .
الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم
و الناس بعد ذلك ثلاثة أقسام :
أحدهما : من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له ، و أريد منها ، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة ، و باع نفسه لله بأربح البيع.
و الصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعاً لقيام القلب بها و هذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح و ما أنعم عليه من الآلاء ، و النعم ، فقام بعبوديته ظاهراً و باطناً و استعمل جوارحه في طاعة ربِّه ، و حفظ نفسه و جوارحه عمَّا يُغضب ربه و يشينه عنده.
و الثـاني : من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له ، بل حبسها على المخالفات و المعاصي ، و لم يطلقها ، فهذا هو الذي خابَ سعيه ، و خسرت تجارته ، و فاته رضا ربَّه عزَّ و جل عنه ، و جَزيل ثوابه ، و حصل على سخطه و أليم عقابه.
و الثـالث : مَن عطَّل جوارحه ، و أماتها بالبطالة و الجهالة، فهذا أيضا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله ،فإن العبد إنما خُلق للعبادة و الطاعة لا للبطالة .
و أبغض الخلق إلى الله العبد البطَّال الذي لا في شغل الدنيا و لا في سعي الآخرة.
بل هو كلّ على الدنيا و الدين ، بل لو سعى للدنيا و لم يسع للآخرة كان مذموماً مخذولاً ، و كيف إذا عطّل الأمرين ، و إنَّ امرء يسعى لدنياه دائما ، و يذهل عن أُخراه ، لا شكَّ خاسر.
تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة
فالرجل الأول ، كرجل أُقطع أرضا واسعة ، و أعين على عمارتها بآلات الحرث ، و البذر و أعطي ما يكفيها لسقيها و حرثها ، فحرثها و هيَّأها للزراعة ، و بذر فيها من أنواع الغلات ، و غرس فيها من أنواع الأشجار و الفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط ، و لم يهملها بل أقام عليها الحرس ، و حصنها من الفساد و المفسدين ، و جعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه ، و يغرس فيها عوض ما يبس ، و ينقي دغلها و يقطع شوكها ، و يستعين بغلَّتها على عمارتها.
و الثـاني : بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض ، و جعلها مأوى السباع و الهوام ، و موضعاً للجيف و الأنتان ، و جعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد و مؤذٍ و لصٍّ ، و أخذ ما أعين به من حرثتها و بذارها و صلاحها ، فصرفه و جعله معونة و معيشة لمن فيها ، من أهل الشرِّ و الفساد.
و الثالث : بمنزلة رجل عطَّلها و أهملها و أرسل الماء ضائعاً في القفار و الصحارى فقعد مذموماً محسوراً.
فهذا مثال أهل اليقظة ، و أهل الغفلة ، و أهل الخيانة.
أهل اليقظة و الغفلة الخيانة
فالأول : مثال أهل اليقظة ، والاستعداد لما خلقوا له.
و الثـاني : مثال أهل الخيانة.
و الثـالث : مثال لأهل الغفلة .
فالأول : إذا تحرّك أو سَكَن ، أو قام أو قعد ، أو أكل أو شرب ، أو نام ، أو لبس ، أو نطق ، أو سكت كان كلِّه له لا عليه ، و كان في ذكر و طاعةٍ و قربة و مزيد .
و الثاني : إذا فعل ذلك كان عليه لا له ، و كان في طردٍ و إبعادٍ و خُسران .
و الثـالث : إذا فعل ذلك كان في غفلة و بطالةٍ و تفريطٍ .
فالأول : يتقلَّب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة و القربة.
و الثاني : يتقلب في ذلك بحكم الخيانة و التعدِّي ، فإن الله لم يملِّكه ما ملّكه ليستعين به على مخالفته ، فهو جانٍ متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه معاقبٌ على التنعُّم بها في غير طاعته.
و الثالث : يتقلب في ذلك و يتناوله بحكم الغفلة و الهوى و نهمة النفس و طبعها ، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى و التقرب إليه ، فهذا خسرانه بيَّن واضح ، إذ عطّل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح و التجارات .
فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس ، رحمة منه بهم ، و هيأ لهم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كلِّ قول و فعل و حركة و سكون حظه من عطاياه.