الجريمة ليست جديدة
من الأمور المؤكدة أن هذه الجريمة الدانماركية بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست جديدة على العقلية الغربية، بل إنها نتاج ما توارثته العقلية الغربية من نظرة مشوهة عمدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللإسلام، وليس هذا غريبًا فقد أخبر الله عزوجل في كتابه الكريم بأن هذا جرى مع الرسل السابقين، فقال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأنعام:10].
ولن نتحدث عن الإساءة للرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم منذ العهد المكي، فذلك أمر معروف، ولكن سوف تتوجه وجهتنا تجاه أوروبا، حيث أفاض الدكتور "عبد الرحمن بدوي" في كتابه "دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره" في عرض مواقف الباحثين والمؤلفين الأوروبيين من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ القرن العاشر الميلادي وما قبله، حيث يظهر كم الإساءات المتعمدة والأكاذيب المشوهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدين الإسلام، ويتأكد لنا أن هذه الأكاذيب لم تكن أمرًا عفويًا أو نادرًا بل كانت منهجًا تلقاه الخلف عن السلف، فلم يكن مستغربًا أن تقدم صحف غربية معاصرة في تجديد للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
وبعيدًا عن ذكر الأمثلة الكثيرة على ذلك نكتفى بإيراد شهادة واحدة أدلى بها الباحث الفرنسي "إرينست رينان"، والذي يقول: "لقد كتب المسيحيون تاريخًا غريبًا عن محمد .. إنه تاريخ يمتلئ بالحقد والكراهية له، لقد ادعوا أن محمدًا كان يسجد لتمثال من الذهب كانت تخبئه الشياطين له، ولقد وصمه دانتي بالإلحاد في رواية الجحيم، وأصبح اسم محمد عنده وعند غيره مرادفًا لكلمة كافرًا أو زنديق، ولقد كان محمدًا في نظر كتاب العصور الوسطى تارة ساحرًا، وتارة أخرى فاجرًا شنيعًا ولصًا يسرق الإبل، وكاردينالاً لم يفلح في أن يكون بابا فاخترع دينًا جديدًا اسمه الإسلام لينتقم به من أعدائه، وصارت سيرته رمزًا لكل الموبقات وموضوعًا لكل الحكايات البغيضة".
هكذا يلخص رينان النظرة الأوروبية على مدى القرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي نظرة لم تختلف كثيرًا في العصر الحديث، فإذا عدنا إلى أوائل القرن التاسع عشر والقرن العشرين فإننا نجد فريقا من المستشرقين أساءوا إلى الرّسول محمّد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من اتّهمه بسرقة ما جاء في التوراة والإنجيل كأبراهام جيجر في كتابه "ماذا استفاد محمد من اليهودية" (بون 1833)، وهير شفيلد في "العنصر اليهودي في القرآن" (برلين 1878)، وسيدرسكي في "أصول الأساطير الإسلامية في القرآن" (باريس 1933)، وريتشاربل في "أصل الإسلام في بيئته الإسلامية" (لندن 1926).
وهكذا تستمر الإساءة والإجرام حتى نصل إلى العصر الحالي، فتأخذ الإساءة بعدًا أكثر تنظيمًا، وأكثر قبحًا ولعل أخطر هذه الإساءات تلك الحملة الكبرى التي نظمتها مجموعة من الجمعيات التّنصيرية حشدت أكثر مليون منصّر بدعم من الفاتيكان للحدّ من انتشار الإسلام في العالم، والعودة بالبشريّة إلى المسيحيّة، ونشرت صحيفة (فليت إم زونتاج) الألمانية تقريراً عن منظمة رابطة الرهبان لتنصير الشعوب سلطت فيه الضوء على جهود المنظمة في نشر الدين المسيحي ومعتقداته حول العالم.
وكشفت الصحيفة في ثنايا تقريرها وهي تشيد بالمنظمة التنصيرية أن المنظمة وهي (المؤسسة الوحيدة في العالم التي تتصدى بفاعلية للصراع بين المسيحية والإسلام ) بحسب وصف الصّحيفة، تعمل بجيش يضم أكثر من مليون منصّر للحدّ من انتشار الإسلام في العالم وعلى تشويه صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما تسعى الرابطة أيضاً لإعادة البشر في كل أنحاء العالم للمسيحيّة.
ونقلت الصحيفة أيضاً في تقريرها أن الصراع الذي تقوده رابطة الرهبان لا يخلو من العنصر العسكري، واستدلت في ذلك بأن الكاردينال (كريشنسيو زييه) رئيس الرابطة دائماً ما يصف المُنَصِّرين العاملين معه بـ( قُوّاتي)، وهذا كما يؤكد التقرير ليس من قبيل الصدفة؛ فقادة الرابطة يعتبرون أنفسهم في حرب معلنة، إذ لا بد أن يكون هناك قادة وقوات كثيرة العدد، وهذا العدد عنصر مهمّ في هذه الحرب حول "العقيدة". ورابطة الرهبان وحدها كما يوضح التقرير موجودة في 40% من أراضي العالم المسيحي، ومعترف بها من 1081 أسقفية، ولرابطة 0الرابطة أكثر من مليون مدرس تعليم مسيحيّ تخرجوا في القسم المحارب للرابطة، وهم يجوبون كل مكان في العالم من قرية لقرية؛ لإقناع المترددين في الإيمان بالعقيدة المسيحية ولإنجاح هذه الأهداف يتم تأمين مبالغ مالية ضخمة تصل إلى 500 مليون دولار سنويًّا.
وهكذا نرى أن الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر متعمد ونهج متبع، وليست الجريمة الدانماركية حادثة فردية، كما يحاول البعض الترويج لذلك في سبيل التخفيف من حدة الغضب الإسلامي.